من السهل اتخاذ خيار الحرب، أما صناعة السلام والحفاظ عليه يحتاج لجهد متواصل، فالسلام أيقونة، وهدف لاستنهاض عوامل التنمية والازدهار، وتجنيب الشعوب الكثير من الألم والمعاناة. غير ان بعض السياسيين يقفزون عن هذا الهدف، لأنهم غير قادرين على صناعة السلام، الذي يحتاج لقرارات مصيرية.
ثقافة التحريض وتربية الكراهية
يواصل بعض “كتاب الموساد” الكذب على أنفسهم وعلى العالم، بخزعبلات أصبحت مفضوحة ولم تعد تنطلي على أحد؛ وبدل سوق الخزعبلات، ننصحهم بالاعتذار للشعب الفلسطيني عن جرائم التطهير العرقي التي نفذها اجدادهم، مدعومين بالاستعمار البائد، بريطانيا التي مهدت لكل ذلك بوصمة العار “وعد بلفور”، واتبعت ذلك بتدريب المنظمات الارهابية في معسكرات جيش الاحتلال الانتدابي البريطاني، التي اقيمت على ارض آبائي واجدادي، فلسطين.
صراعنا ليس مع اليهود “كأصحاب دين”، فقد عاشوا في فلسطين والعالم العربي مواطنين كغيرهم بكامل الحقوق والالتزامات، صراعنا مع أصحاب المشروع الاستعماري المحتل لأرضنا وثقافتنا وحضارتنا، الطارئين على التاريخ والمنطقة، أيا كان لونهم ودينهم.
والتسامح هو قيمة وثقافة لدى الشعب الفلسطيني الذي لا يعرف الكراهية ولا التحريض، في حين يكفي القاء نظرة على الاعلام الإسرائيلي الذي يعكس الكراهية والأجواء المتطرفة التي تشيعها الحكومة الإسرائيلية السابقة والحالية بكل مكوناتها.
لن ننسى، ولن نغفر، ولن نسامح.
كان العالم يتابع غير مُصدق حقيقة الجرائم التي ارتكبت بحق البشرية في معسكرات الاعتقال التي أقامها النازيون خلال الحرب العالمية الثانية بحق شعوب أوروبا وبينهم اليهود، وما كادت الحرب تضع اوزارها حتى نُصبت المحاكم، ولوحِقَ مجرمو الحرب حيثما كانوا.
على الجانب الآخر من العالم، في بلدي فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني، كانت جرائم أخرى بحق شعبنا الفلسطيني تنفذ على ايدي منظمات إرهابية صهيونية مدعومة من الجيش البريطاني، ورغم تَكَشُفِ بعضها لم يكن العالم مستعد للاستماع.
فهل كثير أن نطالب العالم بتطبيق القانون الدولي، بتحقيق العدالة، ولجم سطوة القوة التي تسيطر على حكام “إسرائيل” الذين يتمتعون بدعم لا محدود من البيت الأبيض، أم ان ازدواجية المعايير الدولية باتت هي السياسة السائدة؟؟
طريق السلام الذي ضلّتهُ “إسرائيل”
تحدثنا عام 1993 بصوت لا يزال صداه يتردد في أروقة الأمم المتحدة، دعونا للسلام العادل والشامل لشعوب المنطقة، وفق مبدأ حل الدولتين ، ولم نسمع من “إسرائيل” سوى جعجعة عن السلام دون ان تتقدم خطوة حقيقية واحدة، بل واصلت الاحتلال وتغذية الكراهية.
سارت القيادة الفلسطينية بخطى ثابتة وواثقة نحو السلام، من مدريد الى اوسلو مروراً بواشنطن وكامب ديفيد؛ قدمت تنازلات كبيرة ومؤلمة لتحقيق هذا الهدف، بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وعودة اللاجئين والتعويض وفق القرار 194؛ وعندما دخلت العملية السياسية موتها السريري مع نتنياهو وشارون، طرحت مع الاشقاء العرب المبادرة العربية للسلام في قمة بيروت عام 2002، تفضي الى انهاء الصراع باقامة الدولة الفلسطينية على حدود حزيران 1967وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وانسحاب اسرائيل من الاراضي العربية المحتلة بما فيها هضبة الجولان السورية، يتبع ذلك الاعتراف وتطبيع العلاقات بين اسرائيل والدول العربية.
لم تلتقط إسرائيل هذه المبادرة وهربت نحو الامام، من رابين الى بيريز الى نتنياهو الى ايهود براك فشارون وايهود اولمرت ومرة أخرى نتنياهو، قتلت العملية السياسية مرات ومرات واصبح جوهرها مفرغاً، لإرضاء جشع المتطرفين، وللحفاظ على حكمه خوفاً من تهم الفساد التي تلاحقه،
كانت أوسلو بداية الأمل وأول الطريق، الذي سده تيار التطرف في “إسرائيل” باغتيال رابين، لقطع الطريق امام الوصول الى حل الدولتين وفقاً لاتفاقيات السلام مع نهاية المرحلة الأولى، أي عام 1999.
يحاول نتنياهو وتحالفه المتطرف بدعم من البيت الابيض، القفز عن استحقاقات عملية السلام، التي تأخر تنفيذها لأكثر من عقدين من الزمن، معتقداً ان بإمكانه حرق مراحل المبادرة العربية، والوصول الى التطبيع مع الدول العربية دون ثمن؛ تماماً كما فعلت “إسرائيل” مع المجتمع الدولي قبل سبعين عاما، عندما قبلت ونفذت الشق الأول فقط من القرار الأممي 181 والقاضي بإقامة كيان “إسرائيل” وتعهدت امام العالم بالالتزام والاعتراف بالشق الثاني من القرار “الدولة الفلسطينية” الى جانب عودة اللاجئين الفلسطينيين الى بيوتهم واراضيهم التي هجروا منها، الامر الذي لم تنفذه حتى اليوم.
لم تمتلك اسرائيل منذ اغتيال رئيس الوزراء رابين الشجاعة لمواصلة طريق السلام، ومارست كل الحيل للتنصل من الاتفاقيات، والقفز عنها، وتوافق ذلك مع رغبة وأهداف الإدارة الامريكية الحالية التي لم تكن بالأساس راغبة في التوصل لعملية سلام، وتعتقد أن الوضع الدولي مهيأ لتمرير الصفقات الكبرى
يستدعي ذلك قيام المجتمع الدولي بإلزام “إسرائيل” الكيان القائم بالاحتلال، احترام اليات وقرارات مجلس الامن، وعدم الاعتراف بالمتغيرات التي تحاول فرضها امام الفلسطينيين والعالم، وكخطوة في الاتجاه الصحيح فإن قيام المجتمع الدولي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية تحت الاحتلال على الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بات أمراً ضرورياً وخطوة في الاتجاه الصحيح.
إسرائيل تختار التطرف
قامت “إسرائيل” في العام 1948 على وقع الإرهاب والتطهير العرقي، ومن يحكم تل ابيب اليوم هي ذات العقلية المتطرفة؛ “إسرائيل” بحاجة الى قيادة شجاعة تتخذ قرارات مصيرية؛ كما فعل الجنرال اسحق رابين رمز العسكرتاريا الصهيونية، الذي ورغم تاريخه المعروف سار أولى خطواته نحو تحقيق السلام بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، فكان شريك في اتفاقيات اوسلو التاريخية عام 1993، وبتحريض من جهات سياسية حزبية متطرفة اغتيل اسحق رابين، في 4 نوفمبر 1995، بعد نحو عام على البدء بتنفيذ اتفاقيات السلام الثنائية.
في حين يواصل “بنيامين نتنياهو” المثقل بالفساد، والمهدد بالسجن، إشاعة الكراهية والتحريض، ودفع الكثير من مشاريع القوانين العنصرية في الكنيست الإسرائيلي. والتحريض على المواطنين الإسرائيليين العرب واستثناء هم من الحقوق. وتجسيد دولة الابارتهايد العنصرية. التي تحمي القتلة والأكثر خرقاً للقانون والنظام الدولي.
السلام.. تلاشي الأمل.
في ظل الإجراءات والممارسات الإسرائيلية الاحتلالية التي لم تتوقف، تتضاءل آفاق العملية السياسية، ومع رؤية أمريكية قصيرة النظر تلتقي فيها مصالح (نتنياهو – ترمب)، يقترب الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني من بداية النهاية أو نهاية البداية؛ من المؤكد ان الفلسطينيون الذين يتحكم الاحتلال الإسرائيلي في أسلوب حياتهم، ولا يمتلكون من عناصر المقاومة سوى الإرادة والعزيمة والثقة بالمستقبل، سيخسرون نعم، والمؤكد أيضاً أن “إسرائيل” ستكون الخاسر الأكبر، ولديها ما تخسره.
أمام هذا المنعطف بات من الضروري إبعاد شبح الحرب الذي يخيم على المنطقة، بتفعيل دور المجتمع الدولي، من خلال عقد مؤتمر دولي للسلام بقيادة الرباعية الدولية الى جانب دول أخرى. تكون مرجعيته القرارات الدولية ومبادرة السلام العربية. وأوروبا، الاتحاد الاوروبي أكثر الأطراف المؤهلة للعب دور قوي وفاعل ضمن تحالف دولي للسلام لإعادة الأمور الى مسارها الصحيح، وفق برنامج وجدول زمني محدد. أما مصادرة هذا الملف من قبل الإدارة الامريكية، لم يعد أمراً يقبل به الفلسطينيون.
مخططات الضم الإسرائيلية الامريكية، وماذا بعد؟
هناك شهية استعمارية تلوح في الأفق، وما فعلته وشرعته الإدارة الامريكية لنفسها بخصوص القدس والجولان السورية، خلق خللاً في النظام والموازين الدولية، يجب وقفه حتى لا يكون مثالاً لآخرين.
وبوضوحه المعهود دعا الرئيس عباس الى الجاهزية الفلسطينية لعملية تسوية تاريخية برعاية الرباعية مضافا لها دول أخرى، وفق اجندة محددة موضوعياً وزمنياً، الامر الذي ترفضه “إسرائيل” مدعومة من الإدارة الامريكية التي تساعدها على فرض المتغيرات على الأرض بالقوة، لتمرير ما أسمته “صفقة العصر ” .
بعد اثنتين وسبعين عاماً على النكبة وإقامة الكيان الإسرائيلي على ارض فلسطين التاريخية، لم تستوف “إسرائيل” بعد شروط المجتمع الدولي للاعتراف بها كعضو في المجتمع الدولي وفقاً للقرار 273 عام 1950، ما ترك شهية “إسرائيل” متواصلة لسرقة المزيد من الأراضي التي تحتلها بقوة السلاح، شهية ستبقى مفتوحة لقضم المزيد من الأراضي تنفيذاً لمخططاتها الاستعمارية حتى بعد سرقة الأغوار الفلسطينية لو قدِّر لها ذلكَ. ولا يجب السماح له بذلك مهما كلف الثمن.
تهدف دولة الاحتلال من وراء إجراءاتها والضم جزء منها، الى منع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، متواصلة جغرافياً، بحدود واضحة، ومنافذ بحرية، وجوية، وبرية، المخططات الإسرائيلية الامريكية تعدنا بجيتوهات معزولة، غير قادرة على تنفيذ برامجها التنموية لتحقيق التطور والرخاء لمواطنيها، وفقط ذات قدرة محدودة على إدارة احتياجات سكانية في تلك المعازل، تخضع لقرار أي حاجز إسرائيلي على بوابة أي مدينة،
بعد ان قدم الجانب الفلسطيني كل الخطوات والتنازلات المؤلمة والكبيرة على طريق السلام، لم يبق امام الفلسطينيين سوى سلوك الطريق المعاكس تماماً، الثورة، الثورة السلمية بكل الطرق المشروعة وعلى أوسع نطاق، حياة المواطن الفلسطيني أصبحت مشلولة، لا يستطيع العمل، أو التحرك، أو البناء، أو تطوير اقتصاده او زراعته، وهذا كله نتاج النهج الاستعماري العسكري الإسرائيلي الذي لا يريد للآخر التفكير ابعد من رغيف الخبز، شل الحياة في فلسطين يعني بالتأكيد شل الحياة في “إسرائيل”، عندها فقط قد تنظر إسرائيل من تلك النافذة التي كانت تمسك بمقبضها طوال ربع قرن!!.
سراب تموز، ووضوح الرؤية
تتلاقى مصالح نتنياهو – ترمب في قتل السلام، وكلاهما يسعى لتقريب يوم الحساب، وعناصر الوهم الإسرائيلي الامريكي (كوشنير صهر الرئيس الامريكي، ديفيد فريدمان السفير الأمريكي في إسرائيل، وغرينبلات الذي عبث بالملف قبل مغادرته، يضاف لهم نتنياهو) واربعتهم يعتنقون وَهَمْ “إسرائيل الكبرى”، والحقيقة الوحيدة وسط أوهامهم أن الفلسطينيون، باقون، متجذرون، لم تنفع معهم جرائم التطهير العرقي، ولا سياسة العصا والجزرة، هُم العمود الأساس، بدونهم لا قيمة للاتفاقيات والتفاهمات مهما كان حجمها وبغض النظر عن واضعيها.
وضع العصي بهذه الطريقة لن يخضع الجانب الفلسطيني للابتزازات ” الإسرو – أمريكية ” للعودة الى مفاوضات عقيمة هدفها تصفية القضية الفلسطينية.
الإدارة الامريكية بهذه الطريقة الصبيانية تؤكد عدم رغبتها في الوصول للاستقرار في الشرق الأوسط، لأن السلام يقطع خطط وبرامج أمريكية أوسع تتعلق بالأمن والسلم العالميين،
الوصول للسلام ممكن
في الذكرى 75 لتأسيس منظمة الأمم المتحدة، تبرز أهمية وجود منظومة دولية فاعلة قادرة على إدارة ملفات هامة وخطرة على قاعدة الشرعية الدولية،
إننا في فلسطين، نعتقد أنه من الممكن التوصل إلى اتفاق تسوية يضمن حقوقنا السياسية والطبيعية والثقافية في أرضنا، من خلال مفاوضات حقيقية ترعاها مظلة دولية واسعة تعتمد القرارات الدولية ذات العلاقة بالصراع، تتضمن عدم الاعتراف بالوقائع الاستعمارية الاستيطانية على الأراضي المحتلة عام 1967، والتراجع عن كافة الصكوك والمخططات الامريكية -الإسرائيلية، ومفاوضات برعاية دولية وفق جدول وبرنامج زمني واضح ومحدد.
حتى ذلك الوقت يجب ان تبقى خياراتنا وسيناريوهاتنا جاهزة.
د. محمود خليفة
سفير دولة فلسطين لدى بولندا