كم تساوي فلسطين؟ مقال للصحفي البولندي ماتشي فيشنيوفسكي

كم تساوي فلسطين – الجزء الأول        /  بقلم: ماتشي فيشنيوفسكي – موقع Strajk.eu

في الفيلم الرائع “مملكة السماء” للمخرج ريدلي سكوت هناك مشهد يلتقي فيه المدافع عن القدس، باليان، بقائد الجيش العربي صلاح الدين الذي يحاصر المدينة . وعندما اتفقوا على شروط  شرفية لتسليم المدينة للمسلمين من قبل المسيحيين، خلفًا لقائد الجيش العربي الراحل، سأل باليان: “كم تساوي القدس؟”، فيجيب صلاح الدين : ” لا شئ.” وبعد خطوات قليلة، يستدير مرة أخرى ويضيف: “كل شيء”.

نفس السؤال يمكن طرحه اليوم بخصوص فلسطين. وكما كان الحال في القرن الثاني عشر، فإن كلا الإجابتين صحيحتان اليوم.

كان الأمر سهلاً في البداية. خط وارسو – تل أبيب. التحرك من مطار بن غوريون الى القدس بالقطار ممتاز  ، ومن هناك إلى محطة الحافلات للوصول إلى رام الله. الى هنا تنتهي سهولة الحركة. المحطة التي تنطلق منها الحافلات إلى رام الله على الجانب الفلسطيني محصورة في زاوية ، وليس هناك صالة أو مكتب لبيع التذاكر أو أي شيء آخر يمكن أن تتوقع وجوده في هكذا مكان.

رام الله

– إلى رام الله؟ أجابت الشابة العربية. ” لن تتمكنوا من الوصول هناك اليوم.” لن يتم نقلكم سوى لنقطة تفتيش قلنديا وبعد ذلك سيتعين عليكم التعامل مع الأمر. بامكانكم اخذ سيارة أجرة. أو محاولة عبور الحاجز بمفردكم وستجدون  هناك حافلات على الجانب الآخر.

على الجانب الاسرائيلي مازالت سيارات الاجرة تنتظر الزبائن، مقابل مبلغ لا أستطيع تحمله. وقفت مكاني في انتظار حدوث معجزة.

– تعال معي – قالت لي نفس الفتاة العربية – ستذهب مثلنا.

تحركت مع الفتاة  وسط حشد من الناس، من خلال ممرات ضيقة  للأعلى فوق مستوى السياج بين إسرائيل وفلسطين، ثم إلى الأسفل وإلى الباب الدوار الذي لا يمكن لاكثر من شخص واحد تلو الاخر المرور من خلاله ، تمامًا كما تذهب الأغنام إلى طرق المراعي المخصصة. لا أحد يتحقق من هوياتنا، لا أحد يتحقق من أي شيء. مجرد حشد من الناس، سئموا من حرارة وصلت  40 درجة، يتحركون بين بعضهم البعض.

“الأمر سهل بالنسبة للدخول .” أما الخروج فالأمر أسوأ . عندما يكون الجنود في مزاج جيد، كل شيء يسير بسرعة. إذا لم يكونوا فالأمر سيستغرق ساعات. علينا أن ننتظر حتى يسمحوا لنا بالمرور. وقد لا يسمحوا. -أصبحت تعرف الان.

-أعرف.

على الجانب الفلسطيني، وجدت نفسي في عالم مختلف. فوضى وطوفان من السيارات، وأناس يقفزون منها واليها كالأرانب، المنطقة حولنا مليئة بالسيارات المدمرة والمحترقة والقمامة، كل شيء ينبض، أبواق، صراخ، تنافر الأصوات مع الحرارة الشديدة التي تمتص أي طاقة من الإنسان. يحاول ملاكي الحارس الفلسطيني أن يوصلنا إلى حافلة صغيرة متجهة إلى رام الله، ولم ننجح في ذلك الا بعد محاولات عديدة . الحافلة لا يوجد بها تكييف، ولكن بها اغاني لا تشبه الاغاني  الترفيهية التي يتم تشغيلها لتسلية الركاب. وتحتوي على بعض النغمات المنخفضة والمزعجة. تقوم صديقتي بتسجيل مقطع من إحدى الأغاني وارسالها الى إلى صديقها السوري. الجواب جاءها في رسالة نصية منه على الفور : “احذفي هذه الاغنية من على هاتفك  فورا. فعند العودة إلى الجانب الإسرائيلي سيقوم الجنود بفحص الهاتف، وستقعين في مشكلة. هذه أغنية شهيد في طريقه للموت،”. وقامت بحذفها فورا.

أخيراً وصلنا إلى رام الله.

من المكان الذي نزلت فيه وحتى وصولي الى وجهتي – فندق فخم – كان علي أن اسير عبر نصف المدينة، محاطًا بحشود لا أفهم لغتها، ومشاهد غير مألوفة لم يتسنى لدي وقت للاستمتاع بها، تحت أشعة شمس ضارية. الأشخاص الذين مررت بهم ودودون، رغم تحفظهم. عند وصولي للفندق وشعوري بهواء التكييف البارد، شعرت وكأني تخطيت حدود العالم، وهذا ما سيحدث فعلا وسأفهمه لاحقا. هنا، فندق خمس نجوم فاخر يقدم كل ما يمكن أن يتوقعه مواطن مثلي قادم من الغرب (حسنًا، أبالغ قليلاً): تصميمات داخلية أنيقة، موظفون ودودون ومؤهلون تأهيلاً عاليًا يتحدثون الإنجليزية، غرفة كبيرة مجهزة بكل ما تحتاجه لتشعر أنك قطعت نصف العالم ولم يتغير شيء.

في المساء سأخرج إلى المدينة وسيحيط بي واقع مختلف. لا أريد أن أكرر ملاحظات السائح المعتادة عن الروائح ومذاق الطعام والناس في المقاهي وملابس النساء وألف شيء آخر يملي علي انفرادي بمشاعري، لكن لم يكن لدي شك ولو للحظة بأنني في بيئة مختلفة تمامًا عن بيئتي وحياتي اليومية . وفي ذات الوقت، خلال نزهتي الاولى في المساء  او اثناء تحركاتي فيما بعد لم أشعر، ولو للحظة  بالتهديد أو الخوف، أو اي شئ اخر قد تتوقعون حدوثه في هذه المدينة. كنت أجنبي: نعم ، عدو: لا. كما تبين فيما بعد، الى حين.

لماذا قمت بالمجئ إلى هنا؟ كان من المفترض أن يكون هناك مؤتمر دولي مخصص للذكرى الخامسة والسبعين للنكبة. تم إلغاء المؤتمر في اللحظة الأخيرة، لكن الدعوات كانت قد صدرت بالفعل، وتم حجز الغرف، و شراء تذاكر الطيران، لذلك قام بعض الضيوف بالحضور. بالنسبة لهم، تم تنظيم ما يسمى “ورش عمل”. تم عقد الجلسات الافتتاحية والرئيسية في غرفة مكيفة تمامًا، حيث حمامات السباحة في الفندق والمليئة بالمياه الزمردية (في بهو الفندق، كانت هناك إعلانات مع اعتذارات بأن بعض الضيوف لن يتمكنوا من استخدام هذا النوع من الراحة ). المسابح ظلت مكانها فوقها جسر جميل، ونُصبت حولها طاولات ضمت وجبات خفيفة وقهوة وعصائر وشاي. الظروف كانت مهيأة لعقد الاجتماعات.

وعلى مدى يومين، في القاعة الرئيسية وفي عدة قاعات أخرى أصغر، استمعنا إلى تقارير وتصريحات لمتخصصين أوروبيين وصحفيين في الشرق الأوسط، والى الفلسطينيين أنفسهم حول النكبة. لقد غمرنا بحر من البيانات والمعلومات البحتة ولكنها مؤثرة لما تعنيه النكبة للفلسطينيين. فهي لا زالت موجودة، فعليا وليس رمزيا ومقاومة الفلسطينيين للتهجير، والمستوطنات اليهودية غير القانونية على الأراضي الفلسطينية، والتطهير العرقي التي انتقلت احداثه من جيل إلى جيل.

من المحال أن أنقل لكم كلام أسير أُطلق سراحه من أحد السجون الإسرائيلية بعد عدة عقود، أو أمّ لطفل آخر تتعهد له بأنها لن تموت قبل ان ينال ابنها حريته، أو والد لمراهق “ارهابي فلسطيني” قتل على يد قناص إسرائيلي. يتابعون هذه القصص بلغتهم الخشنة والترجمة تصلني من خلال السماعة في أذني، ثم ينتهي أحدهم ليصفق الجميع ، ويأتي شخص اخر ليروي قصة مأساوية أخرى وهكذا.

استمعت إلى كل هذه المآسي وانتابني إحساس قوي بالظلم. نحن نجلس هنا، مسترخين، في الهواء البارد، قادرين على تناول اي شئ من البوفيه وسكب القهوة لأنفسنا، وتناول الوجبات الخفيفة، والكعك، وحتى الاهتمام بما نسمعه. لكن واقع الامر لا يتغير: صور رهيبة تمر أمامنا، أحيانًا نغلق أعيننا، ونلعن ونسب في غضب عاجز، ولا شيء يحدث. العالم في الخارج كما هو ولا يتحسن. هم فقط يخبرونا كيف يبدو العالم. لنا فقط عن ذلك.

هذا هو الواقع – صحفية صديقة رافعة ايديها في يأس : لن يأتي أحد الى هنا اذا لم يتم توفير ظروف جيدة لهم.

هذا صحيح. هل يمكننا أن نسير في الشوارع الحارة، وننظر في المنازل الخانقة، ونتأمل عيون الناس الغاضبة والعاجزة بسبب لامبالاة العالم؟ في حين بامكاننا أن نسمع الشيء ذاته  وتكتب عنه دون أن تترك ركن الرفاهية –الفندق- لذي نقيم فيه؟

وإذا كنت مصمما، فيمكنك شرح كل شيء بناءً على الوثائق فقط والتي تسلمناها في “الورشة” – كتيب بعنوان “حالة حقوق الإنسان في القدس والوضع الإنساني لسكان القدس في ظل الانتهاكات الإسرائيلية عام 2023” “. (تشمل فصول فرعية: “وضع حقوق الإنسان في قطاع غزة” و”وضع حقوق الإنسان في الضفة الغربية”)، دراسات وتقارير علمية ، بالاضافة إلى شهادات ضحايا العنف الإسرائيلي، أستطيع أن أضيف هنا ان البيانات حقيقية ومرعبة.

وهكذا: في النصف الأول من عام 2023، أطلق الجيش الإسرائيلي في القدس النار على تسعة مدنيين وقتلهم، واعتقل 1800 شخص، وعذب المعتقلين (بما في ذلك الضرب على الوجه، والركل، والحرمان لفترات طويلة من النوم، والإذلال المتعمد)، وعرقلة الحركة عبر حدود دولة فلسطين . يقف الناس لساعات للوصول إلى العمل أو الطبيب أو المدرسة. تمنع السلطات الإسرائيلية الوصول إلى أماكن العبادة، وتعتقل المصلين هناك – في عام 2023، تم إخراج 631 شخصًا من المسجد الأقصى بالقوة، وتم إطلاق الرصاص المطاطي على المصلين في باحة المسجد. غالبًا ما كان المتعصبون اليهود يقتحمون المسجد لزعزعة سلام المصلين، الأمر الذي أدى بالطبع إلى حدوث أعمال شغب واعتداءات متبادلة.

لم تكن أماكن العبادة الإسلامية وحدها هي الهدف لهجمات المتعصبين اليهود. فقد تم مهاجمة أماكن مهمة للمسيحيين من مختلف الشعائر. يتحدث الكتيب بشكل جاف عن المزيد من أعمال المستوطنات اليهودية غير القانونية التي تنتهك القانون الدولي، وعن المزيد من أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون اليهود ضد البلدات الفلسطينية، ويستشهد ببيانات عن مقتل 142 فلسطينيًا في عام 2023، بما في ذلك 93 طلقة في الرأس، و55 طفلاً قُتلوا. متأثراين بجراحهم في الجزء العلوي من أجسامهم، والتي يشير مؤلفو الكتيب إلى أنه تم إطلاق النار عليهم عمداً. من السهل العثور في الوثائق على كلمات السياسيين الإسرائيليين البارزين الذين يدعون بشكل مباشر إلى قتل الفلسطينيين ومحو قراهم من على وجه الأرض (“أرى نتائج رائعة جدًا. أريد أن أرى هذا المكان يحترق”،”لابد من تدمير قرية حوارة”). الوثائق توضح مأساة الأطفال الفلسطينيين الذين قُتلوا خلال الاحتجاجات، وتقييد السلطات الإسرائيلية لحركة الفلسطينيين، مما يحول أماكن إقامتهم إلى سجون كبيرة، وصعوبة الحصول على الرعاية الطبية الأساسية، وتقييد الوصول إلى المياه والكهرباء والغاز، وتدمير الآبار وأشجار الزيتون، وتقييد حقوق الصيادين الفلسطينيين في الصيد. ويتحدث المنشور عن الهجوم الذي شنه الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة في شهر مايو من هذا العام، والذي استهدف المدنيين وأدى إلى مقتل النساء والأطفال. وأخيرا، فهو يسرد رتابة الاتفاقيات والوثائق الدولية التي انتهكت إسرائيل، وما زالت تنتهكها، أثناء احتلالها لفلسطين. نهاية الوثيقة.

لمدة يومين استمعت وقرأت وتحدثت مع أشخاص ما زالت النكبة مستمرة بالنسبة لهم. هل نعرف ما هي النكبة؟

نهاية الجزء الأول

https://strajk.eu/ile-jest-warta-palestyna-cz-i /

كم تساوي فلسطين – الجزء الثاني

 

انتهى الانتداب البريطاني على فلسطين في 15 مايو 1948. تحدث القرار رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة المنشأة حديثًا عن تقسيم فلسطين البريطانية، مع إمكانية إنشاء دولتين – إسرائيلية وفلسطينية. واستندت هذه الوثائق إلى وعد بلفور، وهو رسالة من آرثر جيمس بلفور إلى البارون والتر روتشيلد (زعيم الجالية اليهودية في بريطانيا). وكانت الرسالة عبارة عن إعلان ووعد من الحكومة البريطانية بإنشاء “وطن قومي لليهود” في فلسطين. لقد كان ذلك رد فعل واستجابة لجهود الحركة الصهيونية. إنها خدعة الغرب القديمة: سنعدكم ونقدم لكم شئ ليس من نصيبكم في مكان يعيش فيه ناس منذ الاف السنين. وعلى هكذا اراضي تنمو الصراعات الدموية مثل الاعشاب. لم يكن الأمر مختلفًا هنا.       

 

النكبة

 

وبمجرد أن أصبح من الواضح أن أراضي فلسطين قد تم تقسيمها إلى أجزاء متساوية تقريبا، شرعت العصابات اليهودية في إجبار العرب على الفرار من أراضيهم. وقعت الأعمال الإرهابية الأولى في ديسمبر عام 1947، ثم ازدادت وتيرتها. وفي كانون يناير، شن إرهابيون يهود هجوما على فندق سميراميس في القدس، مما أسفر عن مقتل العشرات من العرب. وفي الوقت نفسه، تم شن هجمات ارهابية وحشية على القرى العربية  لإجبار السكان على ترك منازلهم. في فبراير كان هناك فعليا حوالي 20 ألف لاجئ عربي، وفي ذات الشهر وقعت مذبحة في قيسارية، وقُتل مئات الأشخاص بوحشية في دير ياسين. وطردت العصابات اليهودية آلافًا آخرين من طبريا، أول مدينة كبرى في هذه الأراضي. في أبريل، تم الاستيلاء على حيفا، مما اضطر عشرات الآلاف إلى الفرار نحو بيروت ونابلس، وفي مايو، تم طرد 50 ألف شخص من يافا… في المجموع، تم طرد حوالي 700 ألف شخص من منازلهم وأراضيهم.

وبحلول الوقت الذي تم فيه إعلان إسرائيل، كانت الميليشيات اليهودية قد دمرت وأحرقت أكثر من 500 مدينة فلسطينية. ورافق ذلك إرهاب ومجازر وحشية بحق السكان. وأسماء أماكن مثل الخصاص، قزازة، دير ياسين، خربة ناصر، بيت دراس، الدوايما، قيسارية، الطنطورة هي أسماء لأماكن تمت فيها جرائم قتل جماعية للمدنيين على يد ميليشيات من المتعصبين اليهود، قُتل فيها حوالي 30 ألف شخص.

واعتبرت الأعوام 1948-1949 هي الحرب العربية الإسرائيلية الأولى. واحتلت إسرائيل نحو 78 % من الأراضي التي حددتها الأمم المتحدة  كنواة لدولة فلسطين المستقبلية. ورفضت إسرائيل إعادة الفلسطينيين المهجرين من أرضهم الذين أقاموا مخيمات اللجوء في أماكن مختلفة في فلسطين وفي الدول العربية الأخرى، والتي لا تزال قائمة حتى اليوم.

الجانب الفلسطيني يزعم أن نجاحات الميليشيات الصهيونية لم تكن لتتحقق لولا أن البريطانيين تركوا قبل رحيلهم ثلاثة آلاف متطوع من جنودهم، قاموا بدعم اليهود بالسلاح وتدريبهم على القتال.

وطبعا الرواية الإسرائيلية تختلف عما ذُكر أعلاه : كانت حربا، دافعنا عن أنفسنا ضد من حاول دفعنا الى البحر، هم خسروا ونحن انتصرنا، هذا شئ عادي. ليس تماما.

دافيد بن غوريون قال: “عندما نصبح قوة من خلال إنشاء دولتنا الخاصة بنا، فإننا سنسقط التقسيم وسنحتل فلسطين كلها. ولن تكون دولتنا إلا البداية في تحقيق الصهيونية، وستكون مهمتها الإعداد لمزيد من التوسع. وسيكون على الدولة أن تنجز هذه المهمة ليس من خلال المواعظ، بل من خلال الأسلحة الرشاشة”. وقال جوزيف فايتز، رئيس قسم الاستيطان في الوكالة اليهودية: “يجب أن يكون واضحًا بيننا أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام بين الأمتين في هذا البلد. ولن نحقق هدفنا لو بقي العرب في هذا البلد. المخرج الوحيد هو نقل جميع العرب إلى الدول المجاورة. لا ينبغي الابقاء على اي قرية عربية”.

وهذا يعني أن مسألة التوسع والاحتلال لجميع الأراضي التي سيعيش فيها الفلسطينيون بشكل قانوني كانت واضحة منذ البداية. الصهاينة كانوا مصممين على فرض الأمر الواقع  وإجبار سكان هذه الأراضي على الهجرة، ولم تشكل  قرارات الأمم المتحدة أي أهمية بالنسبة لهم.

نكبتهم

النكبة، كما جائت في الوثائق، وفي خلافات المؤرخين، والمصادر التي يمكنني الاطلاع عليها في غرفة مكيفة في فندق جيد، ليست سوى جزء من القصة. الجزء الثاني والأهم، هو الناس.

وأخيرًا حين غادرنا واحة الرفاهية المتمثلة في الفندق وسافرت لمدة ثلاثة أيام من مخيم إلى آخر للاجئين، نظرت إلى القرى التي أحرقها المستوطنون ، وتحدثت مع الأشخاص الذين حاولوا حرقهم أحياء وهم في منازلهم، وشاهدت تسجيلات كاميرات المراقبة التي تسجل هجوم المستوطنين الذين كانوا تحت حماية الشرطة الإسرائيلية. حصلت على ما أردت.

كانت أياما صعبة. ليس جسديًا فقط – درجة الحرارة 40 درجة مئوية، كيلومترات على الاقدام عبر الشوارع الضيقة لمخيمات اللاجئين، ولكن نفسياً أيضاً – عندما يتعين عليك الاستماع واحدًا تلو الآخر إلى قصص واحد تلو الآخر عن مآسي عائلات بأكملها منذ سنوات مضت، والموت ، وفي حالة من اليأس. ونفس الوقت التصميم على عدم الاستسلام. وبعدعدة قصص مروعة من هذا القبيل، يقع المرء في نوع من اللامبالاة. تقوم بتسجيل الكلمات، قد يعبس وجهك قليلا ، ولكن في الواقع أنت غير مبال،  رغم هول الكلمات المنطوقة إليك.

تمامًا مثل هاذين الزوجين المسنين من العرب المقيمين في أستراليا. أخبرني كيف دخل المسلحون اليهود قريته في عام 1947، وطردوا الناس وقامزا بقتل من قاومهم على الفور. ويقول إنه رأى نساء مقطوعة صدورهن. عندما أسأله ماذا تعني النكبة بالنسبة له، ينظر إلي للحظة ويبدأ فمه بالارتعاش. ثم يقول: “حياتي”. وبعد ذلك لا ينطق ببنت شفة . في اليوم التالي، عندما تحدثنا لفترة، سألته إذا كان يريد العودة من حيث جاء؟.أجابني:  “دائما” وينظر إلي، ربما متوقعا مني أن أفهم وأشعر بما يشعر به.

تقول امرأة من أول مخيم للاجئين قمت بزيارته  في الجلزون إنها كانت طفلة حينها، لكنها تتذكر كم كانت خائفة وأن والدها متوترا لم يأخذ من المنزل إلا الأهم الأشياء لأنه كان يأمل أن يعودوا قريبًا. لم يعودوا أبدا. ولم تعد قريتها موجودة. حتى أنها ذهبت إلى هناك عدة مرات. لا يوجد شئ. ليس هناك سوى البئر، أو بالأحرى ما تبقى منه. قبل بضع سنوات ذهبوا إلى هناك مع بعض الشباب ووقفت بناء على طلبهم بجانب البئر الذي تتذكره منذ طفولتها وأعادت خلق صورة القرية بأكملها من الذاكرة. قالت أين يقع منزل شخص ما، وكيف كانت الشوارع، وقام الشباب بتدوين ما قالته لهم على الورق. وبعد العودة، قاموا بعمل خريطة كاملة للقرية غير الموجودة، ثم نموذجًا. وهذا هو كل ما تبقى من حياتها بالاضافة لمفاتيح منزل غير موجود.

رأيت مفاتيح المنازل التي طُرد منها الفلسطينيين خلال لقائي بهم. لم يعد يصنعوا مثل هذه المفاتيح بعد الآن. المفاتيح الحديثة عبارة عن أجسام معدنية صغيرة وأنيقة لفتح الأقفال الحديثة. مفاتيح النكبة هي مفاتيح قديمة، كبيرة الحجم ذات آذان كبيرة. من الغريب رؤيتها عندما يتم سحبها من الخزائن وعندما تدركون فجأة أنها لن تفتح أي شيء مرة أخرى. والمفتاح على هذا الشكل هو رمز النكبة. وهي فوق بوابة مدخل مخيم بيت لحم، يمكنك أن تراها ايضاً في ورش المجوهرات الصغيرة، وهي للزينة فقط، ومصنوعة من القذائف وقنابل الغاز المسيل للدموع، التي يطلقها الجيش الإسرائيلي، عندما تدخل المخيمات لايقاف شخص ما، واعتقاله، وتفتيش شقته، وضربه، واطلاق النار عليه.

مخيمات اللاجئين هي مباني منفصلة. ضيقة وفوضوية، تذكرنا بقطع  تم رميها بشكل عشوائي، واحدة فوق الأخرى.

– هل تعرف لماذا يبدو الأمر هكذا؟ – سألني محمد، وهو فلسطيني حاصل على شهادة في الهندسة المدنية من جامعة جليفيتسي البولندية –أجابني:  لأنه عندما وصلت الموجة الأولى من اللاجئين قبل 75 عامًا، عاشوا في الخيام. اعتقدوا حينها  أنه ملجأ مؤقت، لأن المجتمع الدولي سيحل المشكلة سريعاُ . لاحقاً، عندما تبين أننا لسنا مهمين لأحد، سُمح لنا ببناء غرف، فلا يمكنني تسمية ما مساحته 4 أمتار على مخطط مربع بالمنزل.

عندما كبر الأطفال، وأصبحوا بالغين، وكوّنوا أسرًا، وأرادوا العيش في مكان ما، قاموا ببناء طابق اضافي في نفس المبنى، لحقه طابق اخر ،وهكذا. أنا مهندس، وأجزم لك أنني  لا أعرف لماذا لا تنهار هذه المباني برمتها منذ زمن طويل. من الغير المفترض ان تبقى ثابتة في مكانها. هكذا تبدو مخيمات اللاجئين كلها.

ثم سأسأل أحد أصدقائي الفلسطينيين لماذا لا يغادرون. لماذا لا يبحثون عن حياة أفضل، ألا يريدون الهروب من البطالة، والظروف الصحية والمعيشية المزرية، من الشعور باليأس؟

-لأننا سنفقد هويتنا. سوف نذوب وسط العديد من مواطنينا في رام الله، على سبيل المثال. اليوم نحن متمسكون بالبقاء معًا وهكذا الحل منذ أجيال: من نفس القرية. اخرج إلى الشارع واسأل أي شخص من أين هو. سيجيبك بذكر اسم البلدة التي نفي منها أجداده.

لقد قمت باجراء هذه التجربة، وسألت الأطفال، الذين تتراوح أعمارهم بين 8 و10 سنوات تقريبًا، من أين أتوا. قاموا جميعهم بتسمية أماكن عائلاتهم.

– و هنا؟ سألتهم.

– هنا نعيش.

لتقريب فكرة ماهية مخيمات اللاجئين – بعض البيانات من مخيم واحد فقط. مخيم الجلزون في محافظة رام الله والبيرة بالضفة الغربية، يقع على بعد 7 كيلومترات شمال مدينة رام الله، وبمحاذاة مدينة جفنا من الشمال، ودير دبوان من الشرق، وبير زيت من الغرب، ومستوطنة بيت إيل الإسرائيلية غير الشرعية. كان عدد سكان الجلزون حوالي 8700 نسمة. في عام 2006 و 9450 في عام 2013. ويقدر عدد سكانها بـ 14000 نسمة. متوسط ​​عمر سكان المخيم 24 عاماً. تبلغ الكثافة السكانية 51,383 نسمة لكل كيلومتر مربع.

النكبة لا تنتهي

 

نابلس تختلف عن رام الله. لن تجد هنا مارّة مبتسمين بهذه السهولة.

هناك جو من العداء يمكنك استشعاره ، الناس ينظرون اليك بطريقة تشعرك بأنك حقا – ضيف غير مرحب به. في بعض الأحيان، تحف حدة التوتر حين ابادر “بالسلام عليكم” فيستجيب أصحاب المتاجر الجالسين في الشارع. في أحد الشوارع ينادي المشرف علينا مذكرا بعدم مغادرة المجموعة ويمنعنا منعاً باتاً من التقاط الصور. وبعد فترة عرفت السبب. هذه المنطقة يحرسها  رجال مسلحون ببنادق طويلة. ينظرون إلينا دون ابتسامات. ثم نسمع دوي إطلاق نار في مكان ما على مسافة قريبة.

في نابلس القديمة، يقودوننا إلى موقع لقتال أخير اندلع مع الجيش الإسرائيلي. تظهر النوافذ المنحنية للمباني نتيجة انفجار قذيفة أو صاروخ ما.

صور الشهداء الذين قضوا وهم يقاتلون إسرائيل معلقة على جدران الشوارع الضيقة. تاريخ وفاتهم قبل شهرين. وجوه الشهداء في كل مكان. أغلبهم شباب. هناك وجوه لنساء وأطفال أيضا.

وفي مخيم آخر، في المساء، عندما يحل الظلام، سنذهب إلى المقبرة حيث يرقد ضحايا المعارك الأخيرة، القبور لا تزال حديثة، وقد تم حفر قبر جديد. ومن غير المعروف ما إذا كان ذلك على سبيل الاحتياط، أم أنه ينتظر جثة شهيد جديد.

تاريخ النكبة ليس مجرد تاريخ. أحداث النكبة لا تزال مستمرة. مثلما حدث في قرية ترمسعيا.

هذه بلدة غنية. وبعض المنازل بناها فلسطينيون يحملون الجنسية الأمريكية. وعندما يصلون لسن التقاعد، يعودون إلى فلسطين  ويستخدمون الأموال التي جمعوها لبناء منازل مجهزة تجهيزًا جيدًا.

وفي يونيو من ذلك العام، هاجمت مجموعة من المستوطنين اليهود القرية. يمكنكم رؤية ما حدث من خلال صور العديد من كاميرات المراقبة التي وضعها أصحاب المنازل على ممتلكاتهم.

شباب ملثمون يسيرون في مجموعات عبر الشارع، ويرشقون الحجارة. الكاميرا التالية – شابان يحاولان إشعال النار في سيارة. كاميرا أخرى: اقتحم أحد المهاجمين منزلا. الصورة التالية: شخص يرمي ما يشبه زجاجة حارقة داخل المنزل. وغيرها الكثير من التسجيلات.

السجل الذي كان له الاثر الاكبر  هو عندما قام أحد المهاجمين بإسقاط أواني لزهور جميلة من جدار منخفض يحيط بمنزل فارغ حتى لا يبقى شيء بشري في القرية المدمرة. وأنا أشاهد هذه المشاهد ، لا أزال أبحث عن كلمة أصف بها ما أراه. فما أراه هو… – … مذبحة – قالتها لي زميلتي في الخلف ملتفتة – إنها مذبحة.

نعم، هذه هي الكلمة التي كنت أبحث عنها. لقد وجدتها حتى الآن في كتب إسحاق بابل، عندما وصف المذابح التي ارتكبها القوزاق في القرى اليهودية. والآن يقوم اليهود بارتكاب مذبحة ضد العرب. التاريخ يسخر في ترمس عجا بشكل قاتم للغاية.

ذهبت إلى أحد تلك المنازل المحترقة. وفي الخارج، روت السيدة العجوز كيف هربت هي وعائلتها إلى الطابق العلوي، في محاولة للهروب من النيران. جائت المساعدة في اللحظة الاخيرة. في الداخل، أنظر إلى الجدران، والسقف، والأرضية المحطمة التي صبغتها النيران، وأمسك بالفرشاة الواقفة في الزاوية، وأبدأ، بشكل تلقائي في دفعها إلى الزاوية. وكأنني أريد أن يعود هذا المكان إلى الحياة بشكل أسرع، أستمر بالكنس دون أن أدرك مدى حماقة ما أفعله. أتوقف عندما ألاحظ بطرف عيني النظرات غير المتفهمة لزملائي الصحفيين وهم ينظرون إلي.

–  هناك – يشير المرشد إلى التلال القريبة، حيث يمكنك رؤية مستوطنة يهودية على سفوحها – في البداية كانت هناك خيمتان. عندما ذهبنا إلى هناك لمعرفة من هم هؤلاء الأشخاص، أخبرنا اليهود المقيمين هناك أنه سيصبح معسكرًا رياضيًا للشباب اليهود وأنهم سيغادرون خلال أسبوعين. وفي غضون أسبوعين، كانت هناك بالفعل عدة منازل في مستوطنة يهودية جديدة غير قانونية يدافع عنها الجنود الإسرائيليون بأسلحتهم على أهبة الاستعداد. اليوم المستوطنة باتت جاهزة تقريبا. هل بالامكان الذهاب الى هناك؟

-أجابني فلسطيني –  لا تفكر حتى بالمحاولة، سيطلقون النار بدون سابق انذار.

وفي فبراير من هذا العام، قررت الحكومة الإسرائيلية إضفاء الشرعية على جميع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. وهكذا، ضربت بعرض الحائط وثائق الأمم المتحدة التي تقر بأن بناء هذه المستوطنات في الأراضي المحتلة غير قانوني. وفي يونيو، وافقت الحكومة نفسها على خطط لبناء 5700 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية.

وتفسر إسرائيل الهجمات على القرى والمستوطنات الفلسطينية بأنها رد انتقامي على الهجمات الإرهابية على المواطنين الإسرائيليين المقيمين أصلا – للتذكير- بشكل غير قانوني في الأراضي المحتلة.

– إنهم محتلون – قال لي سفيان قبل مجيئي الى هنا. – أتفهم؟ يعني ان ليس لهم حقوق، ليس لديهم سوى واجبات تجاه السكان المحتلين. وهم بالطبع لا ينفذون  أياً منها، ولا نتوقع منهم تنفيذها بطبيعة الحال، لكن لدينا الحق في الدفاع عن أنفسنا. على أي حال. يجب علينا أن نوصل للمحتلين أنه  في كل يوم عندما يغادرون للعمل أن يدركوا أنهم قد لا يعود لأنهم سيُقتلون كمحتل. لذا، لا تقل لي إننا نرتكب هجمات إرهابية، لأنهم هم الإرهابيون، وليس نحن.

ليس علي أن أشاركه نفس الرأي ، ولكن ليس من حقي  رفضه.

نهاية النكبة والسلام

أعتقد ان اي شخص واعي موجود في فلسطين وإسرائيل سوف يسأل نفسه عاجلاً أم آجلاً السؤال ذاته: “متى سينتهي هذا الصراع؟ متى ستتوقفون عن قتل بعضكم البعض؟” ثم بعد ذلك  (وهو أمر معتاد أيضًا) يبدأ المرء بطرح هذا السؤال أولاً على أصدقائه، ثم على الأشخاص الأكثر أهمية ثم الصحفيين والمسؤولين … ولا شيء. اليوم، أصبحت الإجابة على هذا السؤال أصعب من أي وقت مضى.

كشيشتوف بومينسكي، السفير البولندي لفترات عديدة  لدى الدول العربية والذي يعرف طبيعة المنطقة  ، عندما سألته عن السلام هنا في لقاء لجريدتي، أجابني مباشرة : “إن ذلك مستحيل في الوقت الحالي”. رغم المحاولات العديدة.

محادثات السلام في أوسلو عام  1993 انتهت بالتوقيع على الاتفاقية في 13 سبتمبر 1993 بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات والرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلينتون. كان هذا ما يسمى بيان المبادئ. واعترفت إسرائيل وفلسطين ببعضهما البعض، وتم تحديد قواعد التعايش المتبادل. ثم كانت أوسلو الثانية، في سبتمبر 1995 في طابا في مصر. قسمت هذه الاتفاقية المناطق في الضفة الغربية إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج). وتقع المنطقة (أ) تحت السيطرة الفلسطينية، والمنطقة (ب) تحت السيطرة المشتركة الإسرائيلية الفلسطينية ، والمنطقة (ج) تدار فقط من قبل الإدارة الإسرائيلية، ولا يُسمح للفلسطينيين بحرية الدخول اليها. اليوم، لم يبق أي من تلك الاتفاقيات التي أعطت الأمل للملايين.

– أوسلو؟ هذه نكبتنا الثانية – يقول أمير، وهو فلسطيني يعيش في بولندا – لقد خُدعنا واليوم لا أحد يبالي بما فعلته إسرائيل والقاءها بكل شيء في سلة المهملات ،فهي تقتلنا وتهجّرنا دون عقاب.

– اتفاق أوسلو نكبة ثانية؟ مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الفلسطينية يرد بسؤال: «ربما كذلك. وبالتأكيد كانت مخيبة للآمال. لكنني عشت في تونس عام 1993، وكان هناك جالية فلسطينية كبيرة في الشتات تحاول تنظيم نفسها من جديد. أتذكر عندما جاء عرفات إلينا. كان هناك حوالي 1000 شخص في الغرفة، وكانوا جميعاً غاضبين من عرفات لرغبته في التوقيع على اتفاق مع إسرائيل. عرفات نظر إلينا وقال: هل أنتم غاضبون مني؟ هل لديكم ملاحظات على الاتفاقية؟ أنا لدي مائة. ولكن إذا لم نستغل الفرصة لبناء أسس الدولة الفلسطينية المستقبلية على الأقل، وإدارتها وموظفيها وغيرهم، فلن تكون لدينا دولتنا الخاصة أبدًا. هذه فرصتنا، وربما الأخيرة”. تشاجرنا لفترة طويلة وصرخنا. لكنه نجح في النهاية باقناعنا. الأمر كان يستحق التوقيع.

عندما طُرح السؤال عن سبب تدمير اتفاقية أوسلو، أجاب أنه بعد مقتل اسحق رابين على يد المتعصب اليهودي وموت عرفات، لم يبق سوى شمعون بيرتس في ساحة المعركة الدبلوماسية. “وكان جبانًا. من دون رابين، لم يكن باستطاعته اتخاذ أي قرار من تلقاء نفسه. لقد تردد، وتراجع، ولم يتمكن من مواجهة المتطرفين والمتعصبين الإسرائيليين. لقد ترك اتفاق أوسلو يموت.

لقد نسي العالم فلسطين اليوم. لقد غطت الحرب في أوكرانيا كل شيء. هذا هو محور الحديث اليوم، مناقشة المساعدات لأوكرانيا، وجمع المساعدات الإنسانية لهم، وادانة الجرائم، وتوجيه الاتهامات للمذنبين وملاحقتهم. الفلسطينيون لا يقولون ذلك علناً، لكن هناك استياء من أن مأساة أوكرانيا غطت على مأساة فلسطين والفلسطينيين. إن الغرب، الذي يستغل حقيقة أن الجميع ينظر إلى أوكرانيا، يسمح لإسرائيل أن تفعل ما تريد مع الفلسطينيين، وأن ترتكب كل تلك الجرائم والأفعال الاجرامية التي كانت حتى فبراير 2022 تحت سيطرة بعض العقلاء في العالم. أما اليوم، ففلسطين لا تحظى باهتمام أحد أو لا تحظى بأي اهتمام على الإطلاق.

أحد الأدلة المدوية على لامبالاة الغرب بالقضية الفلسطينية الخطاب الغبي وغير الإنساني على الإطلاق الذي ألقته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في 23 أبريل من هذا العام. فبدون أي تفكير، قالت فون دير لاين في يوم اعلان قيام دولة اسرائيل إنه، خلال 75 عاما من وجودها، “ازدهار الصحراء”. كما لو انه لم يكن هناك شيء ولا شعب عاش هناك.

-“نحتفل اليوم بمرور 75 عامًا من الديمقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط، و75 عامًا من الازدهار والإبداع والابتكار الرائد. لقد جعلتم الصحراء تزدهر حرفيًا، كما رأيت بنفسي خلال زيارتي للنقب العام الماضي. ما قالته فون دير لاين هو بصق في وجه الفلسطينيين. لا أكترث بشدة لمواهب أورسولا فون دير لاين وآرائها، لكنها عليكم أن تعترفوا بأن الأمر يتطلب الكثير من الجهد لتظهر لشعب بأكمله مدى عدم اهتمامك به. وقامت القيادة الفلسطينية بالاعتراض الفوري مطالبة فون دير لاين بالاعتذار ولكن لم يحدث شئ.  فمن يهتم بفلسطين في الغرب اليوم؟

كم تساوي فلسطين؟ لا شيء، إذا قمت بقياس القيمة بمفياس سلسلة الموت المستمرة منذ بداية الصراع. تأتي لحظة ينظر فيها شخص من الخارج الى الأمر برمته ويتسائل كيف على مدى 75 عامًا لم تتمكن الأطراف المتحاربة من التفاهم، وتقتل بعضها البعض إلى ما لا نهاية. “هيا، سيّجوا أنفسكم بالأسلاك الشائكة واقتلوا بعضكم بعضًا حتى الجيل الثالث، فقط أعطوا الأمر قسطًا من الراحة”.هذا رأي شخص يرى في الاتفاقية أمرا سهلا، والامر متعلق فقط بمدى حدة النقاش.

 إذا ذهبت إلى فلسطين وخضت في شوارع المدن والبلدات ،فسوف تقابل أشخاصًا يدركون أنه لا بديل سوى القتال، حرفيًا، من أجل حياتهم. لأن على الجانب الآخر موت للأمة بأكملها ومحو وجودها كلها. إلن نسمح بذلك، لا نستطيع السماح بذلك.

“شكرا لحضورك”، صافحني رجل مسن في مخيم اللاجئين في بيت لحم. – ارجع إلى بلادك وأخبرهم بما رأيت. أنظر الى الوضع كما ننظر نحن، ولكن بعينيك أنت.

فنظرت بعيني.

نهاية الجزء الثاني

https://strajk.eu/ile-jest-warta-palestyna-cz-ii/

 

Pozostaw powtórkę